اسم الله العدل- دكتور محمد راتب النابلسي
الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى عدل في خلقه، وعدل في تشريعه وعدل في أمره التكويني، وفي أفعاله، أي عدل في خلقه وعدل في أمره وعدل في فعله، خلق وأمر وفعل فعدل فهو عدل.
الله عدل في خلقه: فمثلا مكان اليد مناسب جداً، وفي موقع متوسط، والشيء المعتدل الذي هو بين الإفراط والتفريط، فمفتاح الكهرباء مثلاً إذا وضع في مكان يتناسب مع أهل البيت، فالأب يحرك يده إلى مستوى معين فيطالعه، والأم والابن وجميع من في البيت يستعملونه براحة، فهذا المكان معتدل، ولو كان مرتفعاً لاحتاج الأمر إلى سلم، ولو كان منخفضاً مع الأرض لاحتاج الأمر إلى أن ينبطح الإنسان ليتألق المصباح، أما أن يكون هذا المفتاح في مكان معتدل بين الارتفاع والانخفاض فهذا المكان اسمه مكان معتدل، والاعتدال من العدل، والاعتدال هو التوسّط، ودائماً التوسّط هو الموقف الأكمل بين الإفراط والتفريط.
وأيضا لو أن الإنسان رأى في كأس الماء كل الكائنات الحية لما شرب الماء، فلو أن العين بلغت من الدقة بحيث ترى كل شيء لاستحالت حياتنا شقاءً، ولو أنَّ العين بلغت من ضعف الرؤية ألاّ ترى الشيء الخطر لهلكنا، إذاً في الحالة الأولى إفراط وفي الثانية تفريط، فعتبة الرؤية لها حد معتدل، فالله سبحانه وتعالى عدل في خلقه. ولو أن العين في قمة الرأس أو في الظهر أو في الكف، لاختل نظام حياتك وعملك.
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (الانفطار: أي خلقك أيها الإنسان بحواسك وأعضائك وأجهزتك والغدد الصماء وجهاز الهضم والقلب والرئتين وكل ذلك باعتدال، إذاً فسوّاك فعدلك.
ولو أن حجم الأرض خمسة أمثال حجمها الحالي، فوزنك يتضاعف خمسة أمثال وتصبح حركتك أشغالاً شاقة لأنَّ وزن الإنسان متعلق بحجم الأرض، والدليل وزن الإنسان على سطح القمر سدس وزنه الحالي يهبط من ستين كيلو إلى عشرة. ذاً: حجم الأرض وكثافتها وقوة جذبها وبُعدها عن الشمس وعن القمر وهي تجري وتدور، كل ذلك باعتدال، فسبحان من خلق فسوى.
إذا استيقظت صباحاً وصليت الفجر وجلست كي تفكر، أو سرت فسترى كل شيء أمامك خلقه الله باعتدال، وسيزيدك ذلك معرفةً بالله مسافات طويلة، فانظر كل شيء فأمره إلى الاعتدال!
وقد يصنع الإنسان حلويات بعيارات غير دقيقة فتنبو على الذوق، أما ربنا عزوجل خلق فقدر فتأكل التفاح والإجاص والكمثرى والعنب والتين والبلح، وكله باعتدال.
إذاً: أول معنى من معاني العدل عدل في خلقه، يعني خَلَقَهُ بِحِكمة بالغة، ووهذه آية أخرى تعبر عن هذا المعنى نفسه: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ? وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ?...(الأنعام:73)يعني بالحق بالدرجة الحكيمة، المعتدلة التي لا تزيد ولا تنقص.. هذا في خلقه فاعتبروا يا أولي الألباب.
عدل في أمره: أمرك أن تصوم 30 يوماً في العام، فلو أمرك أن تصوم ستة أشهر، فشيء فوق طاقة البشر، والدليل أن الإنسان يشعر أن آخر خمسة أيام من رمضان طويلة شاقة وكأن كل يوم شهر، فثلاثون يوماً هذا هو الحد المعتدل، وأمرك أن تُصلي خمس مرات فلو كانت 50 صلاة وكل صلاة 50 ركعة لما أطقنا ذلك فالأمر معتدل:" لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ? ...(البقرة:286)
الصيام إذاً معتدل، والحج في العمر مرة، والزكاة ربع العشر، فالشريعة عدل إذاً، وحتى الأوامر، فمثلاً غُضّ من بصرك، فلو كان الإنسان يمشي في الطريق وفاجأه منعطفٌ حادٌ وفجأة مرت أمامه امرأة فعليه أن يغض من بصره، لا أن يكفه كلية، فكف البصر كلية فيه عَنت ومشقة، لكن الله لطيف بعباده فلم يقل لا تنظر بل قال: " قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ..."(النور:30)ولو قال: غضوا أبصاركم.. لَهَلَكنا جميعاً، ولكن جاء الأمر: " من أبصارهم " فإذا حصل مفاجأة غير متوقعة وبأقل من عُشر الثانية غضضت بصرك فلا شيء عليك، فالأمر معتدل.
فما حظ العبد من هذا الاسم؟
نحن دائماً بأسماء الله الحسنى لنا هدفان كبيران، الهدف الأول أن نتعرف إلى الله، وهل في الحياة كلها موضوع أجدر من أن نعرف الله عز وجل، أي هذه الذات الكاملة التي ستبقى في جوارها إلى أبد الآبدين، والهدف الثاني طاعته لنسعد بقربه ورضاه وجنته.
ما حظك من هذا الاسم، أنت مؤمن فماذا تستفيد من هذه الأسماء؟
فأمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن يحترز عن طرفي الإفراط والتفريط، يعني لا إفراط ولا تفريط.
ففي أفعال الشهوة يحترز عن الفجور الذي هو الإفراط وعن الجمود الذي هو التفريط. مثلا قد نجد إنساناً كما يُقال " زير نساء "، إنه غارق في الشهوة إلى قمة رأسه، عدواني، ينتهك أعراض الناس، هذا فجور، وقد تجد إنساناً كما قالت المرأة: " يا أمير المؤمنين إن زوجي صوام قوام، لم ينتبه سيدنا عمر رضي الله عنه فقال: بارك الله في زوجك، فقال له أحدهم: إنها تشكوه يا سيدي ولا تمدحه فجاء به ونصحه، وقال له: إن لأهلك عليك حقاً"
أما مع الأولاد، فإياك أن تعطيهم عطاءً يفسدهم أو أن تحرمهم حرماناً يحقدون به عليك، فأعط الواحد منهم المبلغ الكافي، وأعطه حاجته، ولو أعطيته فوق حاجته فإنك قد أفرطت، ولو أعطيته أقل من حاجته فإنك قد فرطت. وقال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة وقد قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من مال بغير علمه فهل علي في ذلك جناح؟ فقال: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف). والكسوة: اللباس. وقوله: "بالمعروف" أي بالمتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط.
وفي أفعال الغضب يُحترز عن التهور الذي هو الإفراط والجُبن الذي هو التفريط ويبقى في حدٍ وسط وهو الشجاعة.
وفي تربية الأولاد من السهل أن تكون عنيفاً، والعنف لا يحتاج إلى بطولة إن ضربته موجعاً إياه، حطمته، ومن ثم حقد عليك.." علموا، ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المعنف ". وأيضاً لا ترخِ له الحبل فيتجاوز حده، فالاعتدال أن يبقى ابنك راغباً فيك خائفاً منك " رغباً ورهباً " وهذا حد دقيق جداً فدائماً الحالات المتطرفة سهلة، فلا تكن ليناً فتُعصر، ولا تكن قاسياً فتُكسر، والخير وأن تكون بينك وبين الناس شعرة إن شدوها أرخيتها وإن أرخوها شددتها فهذه هي البطولة، البطولة أن يكون الذي حولك في حيرة من أمرك، هم يرجونك ويخافونك في وقت واحد.
وبعد، فلنا وقفه عند العدل في أفعاله، لقد تحدثنا عن العدل في خَلْقِه، وعن العدل في أمره، وبقي العدل في فعله.
العدل سبحانه في فعله: يجب أن تعلم علم اليقين أن في الكون عدالة مطلقة، لكن قد تُفاجأ بسؤال، إن فلاناً مستقيم بعمله التجاري فمحله التجاري كله منضبط، وأسعاره مسجلة، ومعتدلة، ولديه مستندات كاملة فجاءه موظف وافتعل مخالفة وكتبه ضبطاً وزجّهُ في السجن أليس هذا ظلماً صريحاً؟ الجواب: هذه الحادثة بحد ذاتها هي ظلم ظاهري، أما لو ربطت حياة هذا الإنسان في بيته، مع أهله و جيرانه، ومع من هم دونه و مع من هم فوقه، وجمعت الحسابات كلها بعضها إلى بعض، لرأيت في هذا البلاء منتهى العدل وبالتعبير التجاري هناك حساب لا ظُلم فيه، أما حساب السندات هذه وحدها ففيها ظلم، ولكن وضمّهُ إلى ما فعله البارحة في البيت قبل أن ينام، فقد تخرج بالنتيجة ذاتها.
حادث جرت من عشر سنوات، اثنان تشاجرا في سوق ما، أحدهما معه سلاح فأطلق رصاصة، فأخطأت خصمه، وهناك من سمع الشجار فمد رأسه من دكانه فجاءت الرصاصة في عنقه قريباً من عموده الفقري، فُشُلَّ تماماً. فاستوقفني رجل وقال: يا أستاذ أنت تحدثنا عن عدالة الله، فما صنع هذا: إنه رجل صالح فتح دكانه ليسترزق ويسعى على عياله وهو يبيع أقمشة، ولا ذنب له، سمع شجاراً، فمد رأسه فجاءت هذه الرصاصة في عنقه قريباً من عموده الفقري فأصبح مشلولاً، فأين عدالة الله؟ قلت: والله أنا أعرف أن الله عادل، ولكنك أطلعتني على فصل من فصول هذه الحادثة، ولعل لها فصولاً لا نعرفها، لا أنا ولا أنت وأنا أسلم لعدالة الله. فوالله الذي لا إله إلا هو؛ إنها من غرائب المصادفات، والأصح أنها ليست مصادفات: وهي أن صديقاً لي من حي الميدان حدثني بعد عشرين يوماً عن حادثة مثيلة، قال: لنا جار كان وصياً على أموال أولاد أخيه الأيتام وبقي لهم معه عشرون ألفاً ـ ثمن بيت ـ والحادثة قديمة وكان البيت ثمنه عشرون ألفاً فرفض أن يعطيهم هذا المبلغ فشكوه إلى أحد علماء الميدان، فاستدعاه واستدعى أولاد أخوته، فأصرَّ على عدم دفع المبلغ فقال لهم الشيخ: يا بني هذا عمكم فإياكم أن تشتكوا عليه للقضاء، هذه الشكوى لا تليق بكم، ولكن اشكوه إلى الله " هذه الواقعة تمت الساعة الثامنة مساءً، في اليوم الثاني مد رأسه من الدكان فأصابته الرصاصة فشُلَّ جسمه!!!
ومرة كنت راكباً مع أخ في سيارته، فتجاوّزَ حده مع سيارة فضربه فتوقعت من الذي ضربت سيارته أن يكون عصبي المزاج ويغضب ويعلو صوته فنزل، ونظر إليه وقال له: اذهب، وأنت مسامح، فاستغربت والله، وفوجئت بأن الحادث أدى إلى أضرار للآخر بهيكل السيارة والمحرك، فلما رجع صاحبي إلى سيارته رأيت على خده دمعة، قلت له: ما القصة يا فلان؟ قال: والله: منذ سنة ضرب شخص سيارتي وفي سيارته نساء محجبات فكبر علي أن أزعجه وقلت له: سامحك الله. فربنا بعد عام عاملني كما عاملت ذلك الشخص وكال لي بالمكيال الذي كلت به لغيري.
طبعاً هذه حكايات لكن نحن نقتنص ما بها من عبرة، وأنا متأكد أنه لا يقع شيء في الأرض إلا وفق عدالة مطلقة، فدائماً إذا سمعت حكاية أو حادثة فيها ظلم، فسأنصحك هذه النصيحة قل لنفسك: لقد سمعت فصلاً أو عدة فصول من هذه الواقعة و بقي فصل لا أعرفه، ولو عرفته لرأيت العدالة المطلقة، فاعرف الفصل الأخير، دائماً ولا تتسرع، وتمهل ولا تحكم و قل: الله أعلم، وكفى بربك بعباده خبيراً بصيراً، الله يعلم ونحن لا نعلم.
" وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (الشورى:30)
" وَتِلْكَ الْقُرَى? أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (الكهف:59)
إذاً: فالله سبحانه وتعالى عدل في خلقه، وعدل في أمره وعدل في فعله ونحن " المؤمنين " ينبغي أن نقف بين الإفراط والتفريط وأن نكون معتدلين في كل أفعالنا.