ماهية جهنم
تمهيد :
من البديهي ان جهنم هي بؤرة الغضب الالهي وتشتمل على العذاب الجسدي والروحي لمن يردها كما ورد فـي ظـاهـر او صريح الايات القرآنية , اما الذين تمسكوابقولهم انها تشتمل فقط على العذاب الـروحي والمعنوي عليهم تجاهل وانكار قسم كبير من الايات القرآنية او حملها على معان مجازية بلا دليل معقول .
ولـكن ماهي جهنم ؟ وما عذابها ؟ ان افضل الطرق لمعرفة ماهيتها هوالاستعانة بالاسما والاوصاف الواردة بشانها في الايات القرآنية المختلفة من اجل ازاحة الستار عن خفايا بؤرة الغضب الالهي هذه , وكـمـا قلنا مرارا مهما كانت معرفتناالقضايا المتعلقة بالعالم الاخر واسعة فهي تبقى ضيقة وكانها شبح يترآى لنا عن بعد ,اما التفاصيل والخصوصيات فهي مبهمة لان عالم الاخرة بشكل عام ارقى من هذاالعالم وهو تماما كعالم الجنين بالنسبة الى العالم خارج بطن امه .
وعـلى هذا فمن غير المتيسر على الناس في هذا العالم الاحاطة الكاملة باسرار ذلك العالم , لكن لا يحول بتاتا دون الحصول على المعرفة الاجمالية بشانه ابد.
وعـلى اية حال ينبغي متابعة الاسما والصفات والاشارات الواردة في القرآن الكريم في هذا المجال لـغـرض التعرف على ماهية جهنم , لنقرا فيما يلي الايات التالية وهي تعكس جزا من اسما واوصاف جهنم :
1 ـ (وان جهنم لموعدهم اجمعين لها سبعة ابواب ) الحجر ـ43 ـ44.
2 ـ (ساصليه سقر # وماادراك ما سقر # لا تبقي ولا تذر # لواحة للبشر) المدثر ـ26 ـ29.
3 ـ (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين ) البقرة ـ24.
4 ـ (فريق في الجنة وفريق في السعير) الشورى ـ7.
5 ـ (فاما من طغى # وآثر الحياة الدنيا # فان الجحيم هي الماوى ) النازعات ـ37 39.
6 ـ (كلا لينبذن في الحطمة # وماادراك ماالحطمة # نار اللّه الموقدة التي تطلع على الافئدة ) الهمزة ـ4 ـ7.
7 ـ (واما من خفت موازينه فامه هاوية وماادراك ماهيه #نارحامية ) القارعة ـ8 ـ11.
8 ـ (كلا انها لظى # نزاعة للشوى # تدعو من ادبر وتولى ) المعارج ـ15 17.
تفسير وفذلكة :
تعابير القرآن بشان جهنم :
نـواجه في الاية الاولى اشهر اسما النار الذي تكرر ذكره في القرآن الكريم سبعا وسبعين مرة الا وهو جهنم , تشير الاية الى اتباع ابليس وتقول : (وان جهنم لموعدهم اجمعين لها سبعة ابواب ).
اخـتلف اللغويون والمفسرون في معنى كلمة ((جهنم )) فقال البعض منهم انها تعني ((النار)) وقال آخـرون انـها تعني ((العميق والبعيد القعر)) جا في ((لسان العرب )) ان ((جهنام )) بمعنى العمق الشديد ولهذا يقال ((بئر جهنم وجهنام )) ويراد به البئر عميقة القعر.
ونـقـل عـن بعضهم في نفس الكتاب ان اصل هذه الكلمة عبراني وهو((گهنام )) وورد اسمها في العربية ((جهنم )) (ولهذا فهي تعتبر اسما ممنوعا من الصرف لانها اسم علم اولا واعجمي ثانيا).
واعتبرها بعض اللغويين مشتقة من الكلمة العبرية ((جهنيون )) ((358)) , بينما اكدآخرون انها عـربـيـة (وسـبـب عدم صرفها هو العلمية والتانيث ) , واعتبرها جماعة آخرون مشتقة من اصل فارسي .
ويـقـال لـلـحـفـرة تـحـت الارض الـتي تنفخ فيها الحرارة لتدفئة ارضية الحمام ((جهنم )) ايضا ((359)) .
وعـلى اية حال فمهما كان اصلها , سوا كان عربيا او فارسيا او عبرانيا فهي في القرآن الكريم اسم لمكان ملي بالعذاب وهو بؤرة غضب اللّه وله دركات ومراتب متفاوتة .
وقد ورد ايضا في الاية ان لجهنم سبعة ابواب وهذا ما سنتحدث عنه ـ ان شا اللّه ـ لاحق.
ونواجه في الاية الثانية اسما آخر من اسما جهنم وهو ((سقر)) فيعدالاشارة الى احد المشركين الـمـعـاندين (وهو الوليد بن المغيرة ) ـ تقول
ساصليه سقر # وماادراك ما سقر # لا تبقي ولا تذر # لواحة للبشر).
ومهما يكن من امر فكلمة ((سقر)) هي من اسما جهنم وماخوذة في الاصل من كلمة ((سقر)) على وزن فقر وتعني التغيير والذوبان والانصهار اثر حرارة الشمس ((360)) .
واعـتبرها البعض اسما لاحد طبقات جهنم المفزعة كما وردت في حديث منقول عن الامام الصادق (7)
(ان فـي جـهـنـم لواديا للمتكبرين يقال له سقر شكا الى اللّه شدة حره وساله ان ياذن له ان يتنفس فاحرق جهنم )) ((361)) .
ونـقرا في كتاب صحاح اللغة ان ((سقرات الشمس )) تعني شدة حرارتها ,و((يوم مسقر)) بمعنى شديد الحرارة ولاهب .
وجـا فـي كـتاب التحقيق في كلمات القرآن بان هذه الكلمة تعني في الاساس الحرارة الشديدة التي تـغـيـر لـون الاشـيـا وصـفاتها , لكنها تحولت بالتدريج الى اسم من اسما النار وتعني النار الشديدة المحرقة التي تغير كل شي .
وتـدعـم هـذا الادعـا الصفات الواردة في هذه الايات , لانها تؤكد انها تغيرالجلود تماما من جهة , وتقول من جهة اخرى انها لا تبقي شيئا على حاله .
ومـن الاسـمـا الاخرى التي استخدمها القرآن لجهنم بشكل واسع هي كلمة ((النار)) , فقد تكرر ذكـرهـا (145) مـرة والتي تعني في اغلب الموارد نار جهنم , وان جات ايضا في بعض المواضع بمعنى نار الدنيا , ومن جملة ذلك الخطاب الموجه الى المشككين بالقرآن اذ جا فيه : (فان لم تفعلوا ولـن تـفـعـلـوا) (اي لـم تاتوا بسورة من مثله ) (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين ) البقرة ـ 24.
يـقـول الراغب ان كلمة النار تعني الشعلة التي تظهر امام حسن الانسان ,ويقال للحرارة وحدها نار ايـضـا , وراى الـبـعـض ان كلمتي ((النار)) و((النور)) مشتقتان من مصدر واحد ومتقاربان في الوجود.
وعـلـى ايـة حـال فقد كثر استخدام هذه الكلمة في القرآن الكريم بشان جهنم الى حد جعلها تصبح واحدة من اسمائه.
اشـار الـقرآن في الاية (10) من سورة آل عمران الى فئة من المجرمين قائلا : (اولئك هم وقود النار).
وجـات كلمة ((اصحاب النار)) في العديد من الايات لتدل على الاشخاص الذين يردون جهنم ولهذا اصبح هذا التعبير مقابلا لتعبير اصحاب الجنة ((362)) .
ومـن نـافلة القول ان من ضمن المواصفات التي ذكرت للنار هي ان وقودهامن الناس والحجارة (اي الاصنام ) وعلى هذا فهي لا تشبه نار الدنيا في هذا الجانب .
نرى في الاية الرابعة اسما وصفة اخرى لهذا المكان الذي يتجسد فيه الغضب الرباني , وهذا الاسم هو ((السعير)).
فـبـعـد ان يـشير القرآن الى الغاية من نزوله وينذر الناس من يوم القيامة ,يقسم الناس يومذاك الى فريقين ويقول : (فريق في الجنة وفريق في السعير).
وردت كـلـمـة ((سـعير)) في القرآن (16) مرة وورد جمعها اي كلمة ((سعر))مرتين وهذه الكلمة مشتقة من المصدر ((سعر)) (وهو على وزن قعر)) ويعني اذكا الناروتاجيجها , وجا ايضا بـمعنى شدة الاضطرام , ولهذا ((فالسعير)) يعني النار شديدة الاشتعال واللهب والاحراق , وجات احيانا بمعى ((الجنون )) ايضا لان الشخص في هذه الحالة يلتهب ويغلب عليه الهيجان , ويقال كذلك للناقة المجنونة : ناقة مسعورة ((363)) .
ونـظرا لاستخدام كلمة ((السعير)) في الاية المذكورة في قبالة كلمة ((الجنة ))يفهم بانها ايضا احد اسما النار , واستخدام تعبير ((اصحاب السعير)) في عدد من الايات يعتبر ايضا قرينة اخرى عـلـى هـذه الـتسمية ((364)) الا انه لايمكن انكار مجيئها في بعض الايات القرآنية بنفس ذلك المعنى الوصفي لتشير الى اضطرام نار جهنم .
التعبير الخامس الذي تكرر في القرآن في (25) موضعا هو الجحيم فتقول الاية المطروحة لبحثنا
فاما من طغى # وآثر الحياة الدنيا # فان الجحيم هي الماوى ).
وكـلـمـة ((الـجـحيم )) كما يفهم من عبارات القرآن هو واحدة من اسما جهنم ,ومشتقة من مادة ((جحم )) التي تعني ((شدة تورية النار)) كما يقول الراغب في مفرداته .
وتـاكـد نفس هذا المعنى في ((مقاييس اللغة )) ايضا , لكن صاحب صحاح اللغة فسره بالنار العظيمة المصحوبة بالحرارة واللهب .
الا ان هـذه الـكلمة استخدمت في موضع واحد في القرآن الكريم بمعنى النيران المحرقة في الدنيا عندما قال المشركون في زمن النبي ابراهيم (7) : (قالواابنوا له بنيانا فالقوه في الجحيم ) الصافات ـ9.
الا ان هذا الاستعمال لا يمنع من كون الكلمة المذكورة من اسما جهنم .
وتواجهنا في العبارة السادسة كلمة ((الحطمة )) التي تكررت في موضعين في سورة ((الهمزة )) فـالاية قد تحدثت عن الذين يبحثون عن عيوب الاخرين ويغتابونهم ويحرصون على جمع المال ثم قالت : (كلا لينبذن في الحطمة # وماادراك مالحطمة # نار اللّه الموقدة التي تطلع على الافئدة ).
وكلمة ((الحطمة )) على حد قول صاحب ((صحاح اللغة )) وصاحب ((مجمع اللغة )) اسم من اسما جهنم وهي صيغة مبالغة من كلمة ((حطم )) بمعنى الكسروالتهشيم واعتبرها البعض بمعنى تكسير الاشـيـا اليابسة , ولهذا يطلق على سنوات القحط اسم ((الحطمة )) لانها تحطم كل شي وتكسره وتـقضي على الناس , ويطلق اسم ((الحطم )) على موضع في الكعبة يقع بين بابها والحجر الاسود لان الناس يزدحمون هناك حتى ان عظامهم على وشك ان تتكسر من شدة الضغط.
وعـلى هذا الاساس تعود تسمية جهنم بالحطمة الى ان نارها المحرقة تدمركل شي وتقضي عليه , وقد اوضح القرآن نفسه معناها من خلال الايات الواردة في هذا الباب : فقال انها : (نار اللّه الموقدة التي تطلع على الافئدة )وهذه الاية بذاتها دليل على المعنى الذي ذكرناه .
ولـكـن يـستفاد من بعض الروايات : بان كل اسم من اسما جهنم ومن ضمنها الحطمة يشير الى قسم معين من اقسام النار ((365)) .
ذكرت الاية السابعة كلمة ((الهاوية )) التي وردت في القرآن الكريم مرة واحدة حيث تقول الاية : (فاما من خفت موازينه # فامه هاوية # وما ادراك ماهية #نار حامية ) القارعة ـ8 ـ11.
قـال ابن منظور في ((لسان العرب )) ان ((الهاوية )) احد اسما جهنم وعلى هذا يكون معنى ((امه هاوية )) اي ان مقره ومسكنه جهنم ((366)) .
واشـار صاحب ((مقاييس اللغة )) والراغب في ((المفردات )) الى هذه التسمية وان الكلمة ماخوذة فـي الاصل من مادة ((هوي )) بمعنى السقوط لان الكفاروالمجرمين يسقطون فيها , ويتضمن ايضا اشارة الى عمق جهنم .
وفـسـرت كلمة ((ام )) هنا بمعنى المستقر والمكان , واحيانا بمعنى الام اي كما تحتضن الام ابنها تحتضن جهنم من يرد فيه.
وفـسـرهـا بعضهم بمعنى الدماغ , قال : ان الهاوية وصف لاصحاب النارلانهم يسقطون فيها على ام رؤوسهم الا ان التفسير الاول اصح على مايبدو.
ونرى في الاية الثامنة والاخيرة كلمة ((لظى )) وهي الاخرى قد ذكرت في القرآن مرة واحدة , فـقـد جا في سورة المعارج بعد الاشارة الى وضع المجرمين الذين يرغبون في يوم القيامة التضحية بازواجهم واخوانهم وابنائهم لانقاذ انفسهم
كلا انها لظى # نزاعة للشوى # تدعو من ادبر وتولى ) المعارج ـ15 ـ17.
وكلمة ((لظى )) تعني في الاصل النار او شعلة النار الخالصة , ولكن هذه الكلمة اسم من اسما جهنم حـسـب مـاجـا في ((لسان العرب )) و((مفردات الراغب ))(ولهذا فهو ممنوع من الصرف بسبب علميتة وتانيثه ).
وتعني كلمة ((النزاعة )) الشي الذي ينزع ويفصل بشكل متواصل , وتعني كلمة ((شورى )) اليد والرجل واطراف اليد , (وان كانت تاتي بمعنى الاحراق في النارلكن الانسب هنا هو المعنى الاول , لان الشي عندما يسقط في النار , اول ما يحترق فيه اطرافه واغصانه ).
وقال آخرون ان ((الشوى )) هو جلد البدن او فروة الراس ,.
ومـن عـجـائب هذه النار المحرقة انها تدعو اصحاب جهنم اليها , فهل انهاحقا ذات شعور وادراك فتفعل هكذا ؟ ام ان في جهنم جاذبية خفية تستقطب نحوهاكل من حق عليه العذاب ؟
كلا الاحتمالين ممكن , ولكن الظاهر هو المعنى الاول .
وهـنـا تـجـدر الاشارة الى ان الروايات لم تذكر النار كاسم من اسما جهنم ,بل ذكرت سبعة اسما اخـرى واعـتـبرت كل واحد منها طبقة من طبقاتها , وليس كل واحد من هذه الاسما السبعة يشمل جهنم باكمله.
ومن جملة ذلك حديث منقول عن الامام امير المؤمنين (7) قال فيه : (ان جهنم لها سبعة ابواب اطباق بـعـضـهـا فـوق بعض , ووضع احدى يديه على الاخرى فقال : هكذا , وان اللّه وضع الجنان على الـعـرض ووضـع النيران بعضها فوق بعض فاسفلها جهنم , وفوقها لظى , وفوقها الحطمة وفوقها سقر , وفوقها الجحيم وفوقهاالسعير , وفوقها الهاوية ) ((367)) .
ولامـانـع من اطلاق الاسما السبعة المذكورة على كل جهنم احيانا او على قسم منها احيانا اخرى , كـمـا يلاحظ ذلك في اسما الدنيا حيث يطلق احيانا اسم معين على محافظة من المحافظات باكملها , ويطلق احيانا على مدينة معينة من مدن تلك المحافظة .
اوصاف جهنم :
يفهم من مجموع الايات المتعلقة بجهنم واوصافها بانها مركز جزائي رهيب ملي بالنيران اللاهبة وله ابواب ودرجات مختلفة , ولكن نارها ليست كنيران الدنيابل تتميز بالخصائص الاتية :
1 ـ وقودها الناس والحجارة .
2 ـ تطلع على الافئدة : وتنفذ اولى شراراتها الى القلوب .
3 ـ حطمة تسحق كل شي وتقضي عليه .
4 ـ فيها درك يدعو المجرمين اليه 5 ـ تـوصـف بـانها اذا رات من يحشرون فيها : (اذا راتهم من مكان بعيدسمعوا لها تغيظا وزفيرا) الفرقان ـ12.
6 ـ متحركة كما يقول
وجي يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الانسان وانى له الذكرى ) الفجر ـ23.
7 ـ مـحيطة الان بالكافرين رغم انها محجوبة عن الابصار (وان جهنم لمحيطة بالكافرين ) التوبة ـ49.
قد تكون هذه الابعاد جميعها سببا دفع بالكثيرين الى تفسير جهنم تفسيراروحيا فاعتبروا نارها نارا مـعـنـويـة , لكن هذا التفسير ـ بلا شك ـ يتعارض مع ظاهر آيات القرآن الكريم , ولا ينسجم مع الروايات التي وردت في تفسيره.
وعـلى هذا ينبغي القول ان جهنم بؤرة نار مستعرة وتختلف اختلافاجذرياعن نيران عالمنا هذا كما تختلف نعم الجنة مع نعم هذه الدني.
ايضاح :
فلسفة وجود النار :
يـسـال الـكـثير عن مدى ضرورة وجود النار , فاللّه تعالى لايحب الانتقام وان العقوبات توضع لكي لايرتكب الناس الاخطا ثانية او حتى تكون عبرة للاخرين ,بينما نعلم ان لاعودة لهذا العالم بعد هذه الحياة , ولا وجود هناك للتكليف والطاعة والذنب وعلى هذا , ماالمفهوم الذي ستحمله عقوبة باهضة كدخول النار ؟ هذا من جانب .
ومـن جـانب آخر يتمثل الهدف من جميع التعاليم الدينية في تربية وتهذيب وتكامل الانسان , وان لم يقبل بذلك بعض الناس فستكون عقوبتهم الحرمان من بلوغ الدرجات الرفيعة .
فما هي الضرورة لوجود جهنم , ومركز الغضب والعقاب الصارم ؟
ينبغي الالتفات الى نقطتين في ازا هذا التساؤل :
1 ـ قـلـنـا مـرارا ان العقوبات الالهية سوا في هذا العالم اوفي عالم الاخرة هي نتيجة اعمال الناس انـفـسهم , وانما تنسب الى اللّه جل شانه باعتباره مسبب الاسباب فالكثير من نعم الجنة هي تجسيد لاعـمـال الانـسان الصالحة , والكثير من عذاب جهنم تجسيد لاعماله السيئة , ونحن نعلم ان نتائج العمل وآثاره ليست بالامرالهين الذي يمكن التساهل فيه .
مـثلا , الشخص الذي يتناول المشروبات الروحية والمخدرات , ليقضي فترات من الارتياح وهدؤ الـبـال ـ حسب تصوره ـ في ظل هاتين المادتين المخدرتين , ولينتشي باللذة المتاتية من نسيان الدنيا يحذر بان هاتين المادتين المخدرتين هما من عوامل الافساد والتحلل وستؤديان في النهاية الى القضا عـليه ,فالمشروبات الكحولية تسبب لك امراض القلب والشرايين والاعصاب والكبد ,والمخدرات تدمر الاعصاب بل وتنهي كل كيان الانسان .
فـاذا لـم يصغ الى هذا الانذار وتمادى في ممارسته الخاطئة فانه سيواجه عقوبته وجزاه وهذا لا يـحـتاج الى فلسفة ودليل سوى قانون العلية , وهي النتيجة الطبيعية لعمل كل انسان وغالبا ماتكون الـذنـوب عـلـى هذه الشاكلة , وتعقبها نتائج في هذه الدنيا , وفي الاخرة وهي تتجسد على صورة العذاب في جهنم .
ولـهـذا يـلحظ هذا التعبير الذي يتكرر كثيرا في الايات الشريفة والذي يقول انكم تجزون ماكنتم تـعـمـلـون فـنقرا في الاية (90) من سورة النمل : (ومن جابالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون الا ماكنتم تعملون ).
ونـقـرا في الاية (7) من سورة التحريم : (ياايها الذين كفروا لاتعتذروا اليوم انما تجزون ماكنتم تعملون ).
فالمعذرة نافعة حين لاتكون القضية متعلقة بالعلة والمعلول والنتيجة للاعمال .
فالايات التي تتحدث مثلا عن تجسيد الاعمال وتشبه اكل مال اليتيم باكل النار تدل باجمعها على هذا الـمـعنى , وكذلك الروايات التي تقول ان الطباع الحيوانية في الانسان , تظهر من داخله يوم القيامة وترتسم على خارجه , فتغدو صورالاشخاص شبيهة بالحيوانات المتميزة بتلك الطباع .
وخـلاصـة القول : ان هذه الدنيا مزرعة , والاخرة اوان الحصاد , فان كان الانسان قد زرع بذور الـورد , فـمـحصوله اغصان طيبة وطرية ومعطرة من الورد , وان كان قد بذر الشوك فلا يجني سـواه , جـا في حديث عن النبي (9) : ((جا رجل الى النبي (9) فقال :يارسول اللّه اوصني فقال : احفظ لسانك , قال : يا رسول اللّه اوصني قال :احفظ لسانك , قال : يارسول اللّه اوصني , قال : احفظ لسانك ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار الا حصائد السنتهم )) ((368)) .
2 ـ لاشـك ان الـتبشير والتحذير يعتبران دعامتين اساسيتين في اسراالبرامج التربوية , فكما ان التبشير بالجزا الاوفر الذي يحظى به الانسان في الجنة يعد عاملا فاعلا في الدعوة الى طاعة اللّه وترك معصيته , فكذلك التحذير والوعيدبالعذاب الصارم في جهنم يعتبر هو الاخر مؤثرا قويا في هذا الجانب , لا , بل ثبت بالتجربة ان للعقوبات تاثيرا اقوى .
ولهذا فان جميع القوانين التي تسنها مراكز التشريع القانوني في العالم تضمن عقوبات للمخالفين وهو ما يصطلح عليه علما الحقوق باسم الضمانة التنفيذية , وتحظى هذه الضمانة بقدر كبير من الاهمية بـحـيث تعتبر واحدة من العناصر الاساسية التي يبنى عليها القانون , ولو ان قانونا استن ولم يتضمن اي عقاب للمخالفين ( كالسجن والجلد و الغرامة المالية والحرمان من بعض الحقوق الاجتماعية ) فلا يمكن ان يطلق عليه قانون.
فـكيف تكون القوانين الالهية ـ والحالة هذه ـ خالية من الضمانة التنفيذية ؟ القانونية , ولايرى المخالفون لها والمتخلفون عنها اي دافع او وازع لاطاعتها والاليزام بها , ويبقى هدف القانون عقيم.
صـحـيح ان الاثار الوضعية والطبيعية لعدم الالتزام قد تكون رادعا امام التماهل والتجاهل , الا انها غير كافية لوحدها ولهذا فقد ادرج سبحانه وتعالى سلسلة من العقوبات لمن يتخلف عن الالتزام بها , فكما يهدد اقواما بالعقوبة الدنيوية (وامثلة ذلك كثيرة وقد تحققت في الوجود الخارجي واشار اليها الـقـرآن فـي تـبـيانه لحياة الاقوام السالفه ) فهو ـ جل شانه ـ قد وضع ايضا العقوبات في الاخرة لمن يتوانى عن التقيد به.
ومن الواضح كذلك انه كلما اشتدت لهجة الترغيب والترهيب , كلما كان التاثير اقوى واكثر.
وهذا الامر يوضح احد الابعاد الاساسية لفلسفة وجود الجنة والنار.
ربما يقال هنا ان جميع الاثار التي عرضت انما تترتب على الوعيدبالعقاب والجزا , وعلى هذا , فما الـمـانـع ان يكون سبحانه وتعالى قد عرض كل هذه التهديدات والتحذيرات , الا انها لا تتحقق في الـقـيامة , لعدم وجود ضرورة لها ,وذلك لخلو ذلك العالم من درس العبرة للاخرين وانعدام تكرار الذنب من قبل المجرمين ؟
ان هذا الكلام يستلزم ان يرتكب اللّه عز وجل القبيح وانه ـ والعياذ باللّه ـيكذب ويتخلف عن وعده فهو يوعد بالعقاب للمتخلفين وحتى انه يقسم بتنفيذوعيده , وكيف لا يطبق ذلك فعليا ؟ ان هذا الفعل قبيح لا يليق بذاته المقدسة بل ولا يفعله الانسان المهذب الحكيم .
والـنـتـيـجة ان : وجوب التهديد والوعيد بالعقاب والجزا ضمانة تنفيذية ,هذا من جهة , ومن جهة اخرى لابد من تطبيق تلك الوعود والتهديدات لدفع القبح عن ذاته المقدسة .
وهذه هي فلسفة تحقق جهنم وعقوباته.
ومـن اجـل هذا نصت الاية (47) من سورة ابراهيم : (فلا تحسبن اللّه مخلف وعده رسله ان اللّه عزيز ذو انتقام ) (ثم يشرح في اعقاب هذه الاية بعضا من عذاب يوم القيامة ).