العبقرية والجنون
--------------------------------------------------------------------------------
تملكت الحيرة أحد الأطباء من العاملين في مصحة للأمراض النفسية والعصبية، والخاصة بالحالات المتقدمة المستعصية حين عجز عن حل لغز رياضي معقد نشرته إحدى المجلات وخصصت جائزة كبرى لمن يصل إلى حله، وحين هم بالنهوض رأى إلى جواره أحد المجانين الفالتين مستغرقاً في الضحك، سأله عما يضحكه فأجابه المجنون: لأنك فشلت في الحل بينما هو بسيط، افعل كذا كذا.. وقد بادر الطبيب بالاتصال بالمجلة ونال الجائزة بالحل الذي أهداه له المجنون، وكان الطبيب قد سأله: ألست من نزلاء هذه المصحة؟ ألست مجنوناً؟ وأجابه الرجل: نعم، أنا مجنون، ولكنني لست غبياً!
ويحكى أن الممثل الكوميدي الشهير "شارلي شابلن" كان قد زار إحدى المصحات في قرية من القرى متخفياً، ووجدهم يشاركون في مسابقة ترفيهية مخصصين جائزة لمن يستطيع تقليد شارلي شابلن من نزلاء المصحة، وقد أغرت الفكرة الممثل الشهير أن يشارك في المسابقة قبل أن يتعرف عليه أحد، والغريب أن من فاز بالجائزة الأولى أحد النزلاء بينما حصل شابلن نفسه على ترتيب "الثاني"!
وفي معرض كبير للفنون التشكيلية داعبت فكرة المشاركة رأس مدير إحدى المصحات التي يقيم بها نزيل مجنون يتوهم أنه بيكاسو، فقدم لوحة له مليئة بالخطوط والشخبطات واختلاط الألوان، والغريب أن اللوحة فازت بالجائزة الثانية. اصطحب المدير بيكاسو المجنون لاستلام الجائزة، وما أن دخل المجنون إلى القاعة حتى انتابته حالة هستيرية صائحاً: أغبياء.. أغبياء.. وفي محاولة لتهدئته سأله المدير عما يريد فأجابه هؤلاء الناس (يعني الحكام) لا يفهمون في الفن ولا يعرفون من هو بيكاسو الحقيقي ضارباً على صدره، لقد علقوا اللوحة "بالمقلوب". ونظر الحكام إلى اللوحة من جديد، وعدلوا من وضعها، وأعطوه الجائزة الأولى وسط تصفيق يشهد بعبقرية بيكاسو المجنون.!
للمجانين في المصحات سلوك نعرف أشكالاً منه، أحدهم يركب عصى المكنسة ويركض مثل فارس، وآخر يفرد ذراعيه ويجري وهو يرف بهما مثل طائر رشيق، وقد اطلعتنا السينما العربية بأفلامها التي تدور في المصحات على نماذج عديدة يرى كل منهم أنه العاقل الوحيد وبقية الخلق مجانين..
لكننا على الجانب الآخر، حيث العقلاء العباقرة، نجد شاعراً شديد التميز يقول: "تنبت في الليل أجنحة لنا، فنطير، لنرى مدنا.. إلخ" أو آخر يقول: "ويجرحني الضوء في كل ليلة - وعيناك: تمدان لي في المغيب الجناح - إلى آخر ما يراه الشعراء، بدءا بالمتنبي الذي أراد من زمنه ما ليس يبلغه من نفسه ذلك الزمن وانتهاء بقصيدة لم تنشر بعد.
المعطيات واحدة، من خيالات المجانين ومخيلة الشعراء، غير أن المجانين نزلاء المصحات الذين أبدعوا في الرياضيات أو فن التمثيل أو الرسم لدينا شهادات الاعتراف من المحكمين بعبقريتهم الأمر الذي يفتقده المبدعون من عباقرة الكتابة! لدي يقين أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس جميعاً متساوين في الذكاء، وإنما المجتمعات هي التي صنفت هذا مجنوناً وذاك عبقرياً، وربما لو أجدنا الاختبار لبدلنا مواقع هؤلاء بمواقع أولئك، ربما وربما هذا اليقين لدي ليس إلا "خروجاً مارقاً عن النص المتواتر فحسب".