تهم بالكتابة عن نبتة الأمل لئلا تصيب القارئ بمزيد من اليأس المتنامي في وسائل الاعلام، تهم بالكتابة عن يقظة الصبح ومباهج الحياة، عن أحلام الطفولة، عن لذة الماء في أول النبع، عن ابتسامة لم تنسها مذ صارت الذاكرة مأوى وملاذ.
تهم بالكتابة لذاهب الى الوظيفة، مودعا محبيه ليعود لهم بقوت يومهم، فما الحاجة لغرس الأوجاع بين جنبيه. يكفيه مؤشر الراديو عندما يحصي أعداد القتلى دون ذكر أسمائهم، وكلما هرب من محطة عاودته رهبة الأرقام وتحسس رأسه.
تهم بالكتابة عن فرح موعود برقة المحبة، بعيدا عن نشرات الموت المتوالية، كأنما مذيع الأخبار يقرأ مطولة نعي لا تنتهي، حتى صار الموتى هم الحقيقة ومن يستمع وهما افتراضيا ليس إلا.
تهم بالكتابة عن الوردة، متحاشيا القصل والذبح والسحل، الذي يتطاير في الفضاء. ترسم عصفورا، تخط جناحا، تنفخ في ريشة؛ فتمسح ما دونته خشية أن تبكيه بعد قليل.
تهم بالورقة لتحتمي بها من عنف الصورة، علك ترسم فضاء ملونا لا يلطخه دخان القنابل. تهم بالحروف لتبتني سكنا لا تهدمه الجرافات، ولا تتخطفه الانفجارات. تهم بالكلمات لتبتكر مخيلة مزدانة بمستقبل مغامر ومتجدد بلا أسلحة ولا أقنعة.
تهم بالكتابة عن الأرض التي علمتنا معنى الأرض. بالشعر ناديناها وعزفنا لها من ألحاننا الحزن كله. هي تلك الأرض التي نشأت في أحلامنا المشتركة، فاذا بها تنشق وتبتلع ما تبقى من تلك الأحلام.
عشنا طويلا نقتسم رغيف الأمل الذي وعدتنا بها، حملناها قرينة الروح ومحل الفؤاد، لم تكن إلا شقيقة الجسد ومصباحا أخيرا في النفق الطويل، نحوها أسرعنا الخطى ولم نتمهل. صاحبنا الألم في درب عرفنا فيه من أين تأتي الصعاب، استطعنا بمقدرة العاشق الصبر على حربة العدو ولم ينقطع الأمل فينا. الكراهية بينة، عرفنا مصدرها وفردنا صدورنا ودفعناها الى الجدار الأخير.
كم هدهدنا الأطفال قبيل نومهم بقصتها وكيف أنها كلما صغرت في الخريطة كبرت في الأحلام. ربيناها في القصائد وزينا بصورتها الجدران، اقتسمنا معها مصروف المقصف المدرسي يوم كنا صغارا ولففنا اللفحة المرقشة بالسواد وطرزنا أطرافها بالأحمر والأخضر، كأنما حملنا علما لوعد قريب ننصبه في الأعالي.
أعدنا حكايات الأمهات والعجائز اللواتي شيعن جثث أبنائهن بالزغاريد، حيث سموا جنازاتهم أعراسا،وكلما تبقى قصص أطفال لم يعد منها سوى صور معلقة وكبروا في الغياب.
غنينا بقلوب تخفق رغبة لزوال المحنة التي طالت وكأنها ليل، أنشدنا بلهفة لاشراقة وطن يرعى بنيه. وكلما اقتربنا، تبدد.
تهم بالكتابة عن قضية صادقة، فاذا بها تتصدر القضايا. تهم بالكتابة عن شعب يرزح تحت نير الاحتلال، فيقفز آخر الشعوب المحتلة في التاريخ وحيدا. تهم بالكتابة عن دماء زكية سفكت مدافعة عن حقها في العيش حتى آخر قطرة. تهم بالكتابة عن فلاح يغرس بعد كل تجريف لحقله، زيتونة وبرتقال رمزا لعشق الحياة وميثاقا لأطفال قادمين.
تهم بالقول فيستعصي عليك القول، تصيبك الحسرة وتشق الصدر، عندما تسمع وترى ما أصاب الحلم من تمزق وشتات. تحاول الفهم ولا تقدر، تعتصر قلبك ولا ترى الحكمة، تركب مزق المشهد فلا يطلع ما يفيد المنطق والمعنى.
أيتها الكتابة هذا خنجر الشقيق، دماؤنا ساخنة على يديه.
المــوت فـي عــزلــة غــزة
فلسطيني يواسي ابنته الجريحة بعد إصابتها في الغارة الإسرائيلية على غزة أمس (أ ف ب)
غزة تفتقر لكل شيء: الأكفان، الإسمنت لبناء القبور، الغذاء، المساعدات الإنسانية بما في ذلك الحليب، لا تجتاز المعابر الا بأمر من وزير الدفاع الإسرائيلي ايهود باراك. وحده الموت يجري بكثرة اكثر مما تحتمله القلوب: 37 شهيداً وعشرات الجرحى في اربعة ايام. والحرب المفتوحة التي اطلقت شرارتها زيارة الرئيس الاميركي جورج بوش، لا تزال على وتيرتها، التي لم يحاول أي صوت عربي كسرها.
أغلقت إسرائيل المعابر، ومنعت عن القطاع كل شيء. ولخص المتحدث باسم الأونروا كريستوفر جانيس الوضع في غزة بالقول «إن ما يجري سيئ الى درجة ان الفلسطينيين لا يجدون الاسمنت لبناء القبور والمستشفيات توزع الأغطية كأكفان للموتى لعدم توافر أعداد كافية من هذه الأكفان»، موضحاً «حتى في الموت، الإغلاق يؤثر على الفلسطينيين».
(وكالات)