فؤاد التكرلي
1
ترتبط الحداثة في القصة العراقية بكاتبين مهمين ظهرا في الخمسينات هما : عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي. وكانا من جيل شاب بدا التعامل مع الثقافة من موقع فكري وعائلي متميز. كلاهما كان من أبناء الطبقة الوسطى المتميزة ثقافيا واجتماعيا. ولذلك لا تجد الثقافة عندهم ترفا ولا موقفا آنيا بل تأصيل لوجود هذه الطبقة في مكونات المجمع العراقي وجودا قارا وفاعلاً فهي الطبقة العريقة التي أنشأت كل الأبناء القياديين في المجتمع. وعندما استوت على شيء من القوة المعرفية والاقتصادية تمكنت من السياسة فقادت العراق إلى مواقع قد نختلف معها أو نتفق ولكنها كانت العصب الاقتصادي والثقافي لكل أبنية المجتمع العراقي وأنشطته.
كان لفؤاد التكرلي أخا يكبره هو نهاد التكرلي وهما من المثقفين الذين نشئوا في أسرة غنية وذات مكانة اجتماعية عريقة. وكانا يعرفان اللغات الأخرى ويديران حوارا بين أصدقاء مثقفين شكلوا نواة الحداثة في العراق فقد كانت مقهى البرازيلية مكانا للبياتي والسياب وحسين مردان وأكرم الوتري ونهاد التكرلي وفؤاد التكرلي وجواد سليم وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم. ومن داخل نواة التحديث هذه. في الخمسينات كانوا يطلون من نوافذ المقهى البرازيلية على حركة الشارع اليومية على الناس وعلى البضاعة والأسواق وعلى المتغيرات الفكرية وكانوا يتبادلون قراء الكتب الحديثة التي تصلهم من بيروت والقاهرة. وفي الوقت نفسه يطلون على الكتب الأجنبية التي كانت تجلبها مكتبة مكنزي، أول مكتبة للثقافة الإنكليزية في العراق. وفي الوقت نفسه يديرون حوارا عن التجديد والجديد الذي يحدث هنا في العراق حيث كانت الخمسينات نواة حقيقية على مستوى الشارع الثقافي والسياسي، وهناك في مصر ولبنان حيث وجدت الثقافة مجالها في النشر والذيوع وكانت مجلة الآداب النافذة المشرعة على الحديث في الثقافة العربية والأجنبية. فالمشروع التحديثي للثقافة في العراق كان بإرادة أفراد وجدوا في الأشكال الفنية الجديدة أسلوبا يستوعب الواقع العراقي الذي لم تعد الأشكال الفنية القديمة قادرة على احتوائه وتطويره. هكذا بدا عبد الملك نوري وهو يستبطن " الرجل الصغير" الشخصية التي أبتكرها للقص، وفؤاد التكرلي الذي استبطن الإنسان المثقف الواعي لما يجري له في محيطة ثم مكونا السؤال الوجودي عن معنى وجوده وقيمته في الحياة. فكانت الشخصية وعاء استوعب ثقافته ووضع على لسانها مشكلات المجتمع العرقي.
ومن خلال حماس الدكتور علي جواد الطاهر لهما وللقصة العراقية الحديثة أصدر كتابا عن القصة أحتوى نماذج عنها شمل إلى جوارهم قصاصين آخرين بينهم القاص المبدع مهدي عيسى الصقر ومحمود الظاهر ومحمد روزنامجي ونزار عباس ونزار سليم وعبد الله نيازي. وكانت الدراسة دراسة نقدية تنبأت لريادة التكرلي في القصة.
في مجموعته القصصية الأولى " الوجه الآخر" 1954التي حملت عنوان قصته القصيرة الطويلة عرض التكري نموذجا اجتماعيا ممثلا بشخصية مثقف مسحوق تتبادله النوازع النفسية في الوجود وظروف الواقع القاسي الذي يضيق عليه خناق العيش والقول.وكانت القصة فاتحة عهد جديد للقصة العراقية التي وجدت في النموذج الشعبي ما يمكن أن يكون مثالا لها يجاري به القصة العالمية. وقد لقيت الوجه الآخر مديحا ونقدا من قبل كل قرائها وتعد لليوم واحدة من القصص التي لا يتجاوزها الدرس النقدي. ويصمت فؤاد التكرلي أكثر من عشرين سنة لينتج روايته الكبيرة والمهمة " الرجع البعيد" وتتحدث عن الفترة التي أعقبت ثورة تموز 58 وما حدث للعراق فيها من انقلابات وتطورات على كل مستويات البنية الفكرية والثقافية والسياسية والإنسانية فاستل شخوصه من بين الفئات الوسطية الممتلئة بالثقافة والمواقف الوطنية وطرحها على أرضية المجتمع العراقي المضطرب والمشحون بالتوتر والمواقف الناقصة ليظهر لنا نموذجا مركبا من البحث عن وجوده القلق في مجتمع مضطرب. ثم أنتج بعدها مجموعة من القصص القصيرة ومجموعة من الحواريات، أبرزها مسرحية " الصخرة" تلك الكتلة التي تقف في الطريق مستدعية الحديث عنها بوصفها مشكلة بحد ذاتها. وقد تبدو المسالة شكلية هي أن توجد صخرة كبيرة تقطع طريق الناس وتمنعهم من المرور ، لكن الحداثة لا تبدأ بالمألوف الغريب. ومهمتها أن تثير سؤالا إشكاليا عن إمكانية الحلول وتعددها. وفي هذا النص الجميل والممتلئ شعرا. الذي أخرجه الفنان سامي عبد الحميد عام 1967 للجمعية البغدادية في الصليخ بدأ التكرلي بمعاينة المجتمع العراقي من الداخل، من تلك البنية المضمرة ، الغنية بالدلالة والتي لا تثير إلا الأسئلة الوجودية. وفي هذا المسعى الحديث يجمع القاص بين أسلوبية القصة القصيرة والمسرحية دون أن يكون لأحدهم. فقد حاول في هذا النموذج من الكتابة القصصية - المسرحية أن يختط له أسلوبية في القول الحواري، دون أن يرتبط بنوع فني معين، فمهمته أن يرى التداخل الأسلوبي جزء من التداخل بين أساليب القول الشعبي. وقد لا يكون موفقا دائما في مثل هذه الكتابات إلا في إطار أنه عالج فيها ما يمكن أن يوثق ارتباطه بمشكلات الإنسان المثقف. ذلك الذي يضع السؤال عن الوجود بجوار السؤال عن بحثه للقوت اليومي. فالتكرلي قاص يرى من خلال فن القص أن في تركيبة المثقف العراقي ما يمكنه أن يكون صوتا للجماعة المقهورة. وليس مفرداً. هذا الاستبطان الجماعي لصوت المفرد هو من أهم ميزاته الفنية في تلك المرحلة والي جلبت غليه انتباه النقد التقدمي. ففي الحياة العراقية الشعبية، ما يمكنه أن يوازي به ما في الحياة الغربية. فالكتابة عن أحداث المجتمع عند فؤاد التكرلي لا تعيد النص إلى منطق الحكاية والحدوتة الشعبية، بل تنهض به إلى مصاف الفنية العالية والقول الذي يرتبط بإنسان حديث له رؤية وموقف فلسفي واضح..
بعد مجموعته القصصية الوجه الآخر، وروايته الرجع البعيد، 1980 يعود التكرلي ثانية للمجتمع العراقي ، وهذه المرة في رواية مهمة أخرى هي "خاتم الرمل" ثم رواية مهمة أخرى" المسرات والأوجاع 1998". وفيها يؤكد على أهمية الحدث الاجتماعي الذي تتلبسه الأحداث السياسية وفي هذه الرواية الكبيرة والمهمة يعود التكرلي ثانية إلى أسلوبية فن الرواية الاجتماعية - الحديثة. التي يؤكد فيها صوت الريادة عندما يكتشف في المألوف الحياتي نموذجا إنسانيا كبيرا يعبر من خلاله عن مواقف الفئات الاجتماعية العريضة المحملة بذات وجودية قلقة وبحث عن مصير جماعي للناس، فالمحن السياسية لم تكن محنا معزولة في عرف التكرلي عن الحياة للرجل العراقي البسيط ولكنه كان ينظر إليها من خارج الإيديولوجية المعلنة فله هو أيديولوجيته التي يرى من خلالها ارتكاس وتطور المجتمع العراقي. فهو وغائب طعمة فرمان لوحدهم من يميز بين بناء الجملة في الرواية وبناء الجملة في القصة القصيرة.هنا في الرواية لا تنشد الجملة ولا العبارة ولا الفقرة ولا الفصل نهاية أو حسما لقضية كل شيء يمتد ويستطيل كما لو أن بناءه المعماري المشيد على أرض الواقع يستطيل ويعلو وعلى القارئ أن يتابعه في حقائقه اليومية المباشرة أو تأويلاته الفنية والنقدية المضمرة أنه قاص رائد بحق والقصة العربية تفتخر به إلى الحد الذي تميز بين أقرانه العرب ليفوز بأهم جائزة نقدية عن القصة والرواية هي جائزة سلطان العويس.
في أبعاد الحداثة القصصية التي نهضت في الخمسينات نجد وجها آخر لثقافتنا لا يتمثل هذه المرة في نتاج دن آخر بل في كل النتاج من رسم وشعر وقصة ومقالة وعمارة لرسم خارطة متسعة للإبداع. وهذا ما جعل منهجية التكرلي في القص أرضية لقصص الستينات، الآمر الذي يجعل فن القصة الحديثة منفتحا على العقود والتجارب. وفي الستينات حيث صمت التكرلي ونهض جيل كامل من القاصين الشباب كان التكرلي يرى في ما ينتجه القاصون الجدد طريقة منفتحة على التطوير والتجديد ولكن لم يقترب منها كثيراً.
على المستوى الاجتماعي والسياسي حاول التكرلي أن يكون في جوهر الحياة السياسية من خلال نتاجه القصصي، دون أن يكون منتميا لأي اتجاه سياسي معين. وطوال التعامل مع أحداث المجتمع العراقي كان في صف التيار التقدمي الذي لولاه لما مكنته رؤيته الفنية - النقدية للمجتمع من أن يكتب قصصا تتحدث عن مشكلات اجتماعية. ومنذ أواسط الثمانينات تقاعد التكرلي من مهنة القضاء العراقي وتفرغ للكتابة. ومنذ التسعينات غادر العراق بعد أن رأى فيه ما يمكن أن يكون مستقرا للنتاج دون أن يطرق بابه أحد زبانية الثقافة ليقول له أن أكتب قصة عن الحرب. ومنذ ذلك الوقت يعيش التكرلي في تونس ضمن مؤسسة إعلامية يطل من خلالها على كل ما يجري في الوطن العربي.
في الذاكرة القصصية لفؤاد التكرلي. لا تستحضر نماذج من القول القصصي العربي إلا القديم منها . أما ما يستحضر من القصص العالمي فكثير جداً ولعل هذه الموازنة بين أسلوبية القص العربي القديم وأسلوبية القصص الأوربية الحديثة هو ما يجعل التكرلي واحدا من رواد نهضة أسلوبية واجتماعية تنأى بالنتاج المحلي إلى مصاف العالمية.