خصوبة لفظة دمشق في شعر نزار قباني
لعل نزار قباني أضاف معنى جميلاً وجديداً على قول أبي فراس الحمداني:
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر
حينما قال نزار:
يادمشق البسي دموعي سواراً وتمني .. فكل صعب يهون
والإضافة تكمن في فكرة جعل المهر يرتبط بالمناضلات في حين أبو فراس ربطه بالحسناوات، ولعل اسم دمشق أضاف هذا المعنى العروبي الجميل وهذه الخصوبة ومقدمتي
هذه تمهيد للحديث عن كتاب صدر حديثاً بعنوان (قراءة النص الشعري لغة وتشكيلاً) عن دار الينابيع بدمشق، وأول مايلفت الفكر الناقد هو النموذج الشعري الذي انتقاه
الدكتور هائل الطالب فقد انتقى شاعراً نبت من ماء دمشق وتربتها ثم نام فيها هو الشاعر الكبير نزار قباني.
والكتاب يتألف من مقدمة وبابين يحتويان على عدة فصول، وقد تعمق الباحث هايل الطالب في دراسته اللسانية من خلال الحقول الدلاليةللألفاظ في لغة نزار قباني.
والحقيقة استوقفني الفصل الأول من الباب الثاني المعنون بـ(التشكيلات الدلالية لمقولة الوطن) في شعر نزار قباني فلفظة دمشق (الشام) تشكل دلالات متعددة في
شعره وقصائده هي: الولادة، الجمال، الشموخ، الحب ، الطفولة، الأصالة العربية، العروبة، وكلها مرتبطة بمعاني الخصوبة فمعاني الولادة والحريةمد بجة بألوان عديدة
في شعر شاعرنا.
وإذا أردنا أن نربط عنوان مقالنا بكلامنا نقول: إن أسلوب تأنيث المكان في النقد العربي مرتبط بفكرة الأنوثة لما للمرأة من معاني الوطن، فثنائية الوطن والأنثى تظهر في
عشق نزار قباني لدمشق بطريقة صوفية حينما يشخصها قائلاً:
مسقط رأسي في دمشق الشام
هل واحد من بينكم
يعرف أين الشام؟
هل واحد من بينكم
أدمن سكنى الشام؟
رواه ماء الشام
كواه عشق الشام
تأكدوا يا سادتي
لن تجدوا في كل أسواق الورود وردة كالشام
وفي كل دكاكين الحلى جميعها
لؤلؤة كالشام
لن تجدوا
مدينة حزينة العينين مثل الشام
والحزن هنا في العينين سمة جمالية في المرأة محبوبة لدى الرجل فهو يجدد في التشكيل اللغوي الى درجة يحول معاني الحزن إلى جمال حين يسندها وينسبها لدمشق،
وكما نلاحظ فقد كرر الشاعر لفظة (الشام) سبع مرات ولفظة(دمشق) مرة واحدة في تشكيل دلالي واحد وقد قرن الشام بالولادة (مسقط رأسي) ،وبالسكن،
وبالماء، وبالعشق، وبالورود، وباللؤلؤة، وبالحزن، وقد وردت هذه الألفاظ بصيغة الاستفهام (هل واحد من بينكم) وهذا التساؤل في البلاغة العربية نسميه تجاهل العارف
فهو يسأل ويعرف الجواب وغرضه تأكيد عشقه لدمشق وإثارة المشاعر فليس لها من مثيل.
وإذا رصدنا شعر نزار قباني عندما يتحدث عن دمشق أو الشام نجد عشقه من خلال تكرار لفظة (شام) أو (دمشق) ومن المعروف في علم النفس أن الإنسان
يتلذذ ويتمتع بتكرار نطق اسم العشوق وهذا يتضح في قوله:
شام.. ياشام.. يا أميرة حبي كيف ينسى غرامه المجنون
شام.. ياشام..غيّري قدر الشمس وقولي للدهر.. كن فيكون
وترتبط لفظة شام أو دمشق عند نزار قباني بمقولة الجمال عندما تقترن بألفاظ الطبيعة وجزئيات المكان في شعر نزار قباني، وكذلك ترتبط بمقولة الحب التي تتداخل مع
مقولة العروبة وهذه المقولات الثلاث (الحب، الجمال، العروبة) تتداخل معاً لتشكيل مقولة دمشق (الوطن) وهذا مايمكن ملاحظته في النص الآتي لنزار:
قمر دمشقي يسافر في دمي وبلابل.. وسنابل.. وقباب
الفلّ يبدأ من دمشق بياضه وبعطرها تتطيب الأطياب
والماء يبدأ من دمشق فحيثما أسندت رأسك جدول ينساب
والشعر عصفور يمد جناحه فوق الشآم .. وشاعر جواب
والخيل يبدأ من دمشق مسارها وتشد للفتح الكبير ركاب
فالنص السابق يظهر العروبة من خلال تركيز الشاعر على جزئيات المكان (دمشق): (البلابل، الفل، الماء، جدول، الجمال) وتكرر اسم دمشق أكثر من مرة وفي
كل مرة كان اسم دمشق يرتبط بدلالة مختلفة هي: الفل والماء والحب والخيل والدهر والعروبة. وتأخذ دمشق دلالة إيجابية عبر تكرار الفعل(يبدأ) الذي يمثل البداية
في كل شيء: الفل والماء الدالان على الجمال بدايتهما من دمشق وهذا يجعل من دمشق مهد الجمال.
والخيل والفتح الدالان على القوة والحرب من أجل استعادة الحقوق بدايتهما من دمشق وهذا يجعل من دمشق مهد للعروبة.
أما معاني الجمال فتظهر هذه المقولة أكثر من خلال الألفاظ الدالة على الجمال (الماء، جدول، الفل، العطر، الجمال) التي اقترنت بدايتهما بدمشق.
وأخيراً أقول: إنني انتقيت هذا الفصل من كتاب (قراءة النص الشعري) لغة وتشكيلاً للدكتور هايل الطالب معتمداً نزار قباني نموذجاً تطبيقياً لأنني وجدته غنياً بمادة
جميلة عن دمشق عاصمة الثقافة لهذا العام.أضف الى ذلك أن هايل الطالب أضاف إضافة جديدة في علم اللسانيات من خلال الحقول الدلالية التي اعتمدها فجعل هذه الدراسة
أقرب الى البلاغة العربية أو امتداداً جديدًا في خدمة البلاغة العربية وعلى الأخص أن علم اللسانيات قد يكون مأخوذاً من الغرب فشعرنا بغربته لكن هذا الكتاب فيه أصالة
ومشرقية كأصالة ومشرقية نزار قباني شاعرنا الجميل ووردة دمشق الفواحة أبداً.
منقول